بسم الله الرحمن الرحيم
الأساتذة الأفاضل، والزملاء الأعزاء، والطلبة الكرام،
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
.لقد اعتدنا في أكثر من محاضرة أن نتوقف عند ثلاثة مصطلحات محورية في الرياضيات: الرياضيات الصرفة، والرياضيات التطبيقية، والفرق بينهما.وربما يُطرح سؤال يتكرر كثيرًا: ما جدوى الرياضيات الصرفة إذا لم تُطبق؟ وما قيمة الرياضيات التطبيقية إذا لم يكن لها أساس نظري متين؟في الواقع، الرياضيات الصرفة هي المعمل العقلي الذي تولد فيه النظريات والمبرهنات، وهي التي تمنح الرياضيات روحها العميقة وقدرتها على الصمود عبر القرون. أما الرياضيات التطبيقية، فهي الأداة العملية التي تنقل هذه الأفكار إلى الواقع، فتصبح وسيلة لحل المشكلات في الهندسة والطب والاقتصاد والذكاء الاصطناعي والعلوم الحديثة.ولعل أجمل ما في الأمر أن العلاقة بينهما ليست علاقة تناقض أو تفاضل، بل علاقة تغذية متبادلة : فالتطبيقات العملية تدفع الرياضياتيين إلى ابتكار نظريات جديدة. والرياضيات الصرفة تمد التطبيقية بالأسس التي تجعلها دقيقة وفعّالة.إن التحدي الذي نواجهه اليوم هو كيف نواكب التطورات العلمية والتكنولوجية المتسارعة من خلال نماذج رياضية قادرة على محاكاة الواقع، دون أن نهمل القواعد النظرية الصلبة التي تجعل هذه النماذج ممكنة.تجربتي في تدريس الرياضيات عبر سنوات طويلة علمتني أن الطالب لا يحتاج إلى الاختيار بين الصرف والتطبيق، بل أن يفهم أن كلاهما جناحان لطائر واحد، لا يمكن لأحدهما أن يطير دون الآخر.
لماذا الرياضيات؟
كثيرًا ما يُطرح هذا السؤال: لماذا اخترت الرياضيات؟ ولماذا أستمر في الحديث عنها حتى بعد التقاعد؟لطالما سألت نفسي ولمن حولي: لماذا الرياضيات؟ لماذا تظل جزءًا من حياتنا طوال الوقت، سواء في العمل الأكاديمي أو حتى في أبسط تفاصيل حياتنا اليومية؟منذ سنوات الدراسة الأولى، كان هذا السؤال يراودني باستمرار: لماذا ندرس الرياضيات؟ لم أجد الإجابة الكاملة في الكتب أو المحاضرات، بل اكتشفتها تدريجيًا مع مرور الزمن. الرياضيات ليست مجرد أرقام أو معادلات جافة، بل هي لغة الكون التي تصف كل شيء حولنا: من حركة الكواكب إلى نبضات القلب، ومن الموسيقى إلى الاقتصاد. إنها العلم الذي يمنحنا القدرة على التفكير المنطقي، التحليل الدقيق، وصنع القرارات الصائبة، فضلاً عن كونها أداة لترتيب الأفكار وتنظيم العقل.في قاعات التدريس، كنت أكرر هذا السؤال مع طلبتي: “لماذا الرياضيات؟” وكان جوابي دائمًا: الرياضيات هي تدريب للعقل على التفكير المنطقي، وصقل لروح الصبر والدقة. ليست علمًا منفصلًا عن الحياة، بل جزء أصيل منها، نراه في التكنولوجيا، الاقتصاد، الهندسة، وحتى الموسيقى والفن.خلال مسيرتي الأكاديمية، لم تكن الرياضيات مجرد مهنة، بل أسلوب حياة. علمتني كيف أبحث عن النظام وسط الفوضى، وكيف أجد البساطة في التعقيد، وكيف أقدّر الجمال في التناسق والتناغم.من خلالها، تعلمت الصبر والدقة، والإصرار على البحث عن الحقيقة مهما كانت مخفية أو معقدة. كما علمتني التواضع أمام عظمة الخلق؛ إذ يظهر كيف أن الكون مبني على قوانين دقيقة، تنتظر من يكتشفها ويترجمها إلى لغة يفهمها البشر. الرياضيات تجعلنا نتواضع أمام هذه العظمة، وتُرينا كيف أن كل ظاهرة طبيعية، اجتماعية أو اقتصادية تحكمها قوانين دقيقة، تنتظر من يكتشفها ويترجمها بلغة الرموز.الخلاصة: لماذا الرياضيات؟ لأنها ليست مجرد علم، بل طريق للتفكير، ومرآة لفهم العالم، وأداة لبناء المستقبل. الرياضيات ليست علمًا جامدًا، بل رحلة حياة، ومن يفهمها بعمق يكتشف جمالًا لا يقل عن جمال الشعر أو الفن. ومن هذا المنطلق، يظل شغفي بها حيًا حتى بعد سنوات طويلة من التدريس والبحث.مع خالص تحياتي للجميع، ومن الله التوفيق.
ا.د. نوري فرحان المياحي
قسم الرياضيات / كلية العلوم / جامعة القادسية